صفقة القرن 2- ترامب يُحيي كابوس تهجير الفلسطينيين ويستهدف الأردن ومصر

واجهت الدبلوماسية الأردنية تحديًا جسيمًا حين تبنت الولايات المتحدة الأمريكية، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، رؤية اليمين الإسرائيلي المتطرفة. هذه الرؤية تسعى إلى ترحيل الفلسطينيين من أراضيهم، وتسوية قضيتهم الوطنية خارج وطنهم، تحديدًا في الأردن والدول المجاورة، مما يضع عبئًا ثقيلاً على كاهل الأردن والفلسطينيين على حد سواء.
بعد المكالمة الهاتفية التي جرت بين الرئيس ترامب والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، والتي كشف عنها البيت الأبيض، عمت حالة من الاستياء والقلق أوساط المجتمع الأردني، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو في النقاشات السياسية. السؤال الذي يتردد بقوة هو: ما السبيل لمواجهة هذا التحدي؟ ويصحبه شعور بالإحباط والعجز.
مخطط قديم متجدد
إن فكرة تهجير الفلسطينيين ليست وليدة اللحظة، بل تعود جذورها إلى نكبة عام 1948. الأردن نفسه شهد تغييرات جغرافية وديموغرافية كبيرة نتيجة لهذا المخطط وتداعياته المؤلمة، خاصة في أعوام 1948 و1967. ومع كل تعثر في مسيرة السلام المتعثرة، يظهر شبح التهجير مجددًا، مصحوبًا بأفكار أخرى مقلقة مثل التوطين والوطن البديل والفدرالية والكونفدرالية.
مع تنامي نفوذ اليمين الديني والقومي في إسرائيل على مدار العقدين الماضيين، تصاعد القلق في الأردن بشكل ملحوظ. هذا التيار، الذي أصبح التيار الرئيسي، يسعى جاهدًا لتقويض أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة. يعمل هذا التيار بشكل ممنهج على تدمير حل الدولتين، ويطالب قادته بـ "تطهير يهودا والسامرة" من سكانها الأصليين، وتهجيرهم قسرًا، مع تجاهل أي مسمى للضفة الغربية. بل إن بعض الخرائط التي ينشرها هذا التيار تقترح ضم الأردن إلى "ولاية" إسرائيل الكبرى.
بعد السابع من أكتوبر وإطلاق عملية "طوفان الأقصى"، ومع بداية الحرب الشرسة التي شنتها إسرائيل على غزة، بدت إدارة بايدن الديمقراطية وكأنها تتبنى أفكارًا قريبة من اليمين الإسرائيلي المتطرف. وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بدأ بالترويج لفكرة تهجير سكان غزة، ولو بشكل مؤقت، بذريعة إنسانية زائفة. خلال جولته الأولى في المنطقة بعد الحرب، عمل بلينكن كمبعوث لإسرائيل لتسويق هذا المشروع الذي يهدف إلى التطهير العرقي.
ما بدأ كمقترح مؤقت وإنساني في عهد إدارة بايدن الديمقراطية، تحول إلى هدف استراتيجي طويل الأمد في عهد إدارة ترامب الجمهورية. الرئيس ترامب اتصل بالملك الأردني لحثه على استقبال المزيد من الفلسطينيين المهجرين من غزة، علمًا بأن الأردن استقبل سابقًا موجات لجوء فلسطينية ونجح في توفير الرعاية والدمج. وعندما سئل ترامب عن المدة الزمنية المقترحة لهذا التهجير، أجاب "طويل الأجل". الخبرة التاريخية مع إسرائيل تعلمنا أن كل ما هو مؤقت في قاموسها، يصبح دائمًا، ما لم يتم إجبارها على تغيير ذلك.
ما زاد من القلق الأردني هو أن هذا الموقف الأمريكي المتشدد تجاه حقوق الفلسطينيين وأمن الأردن ومصر، جاء بعد فترة وجيزة من إصدار ترامب "أمرًا تنفيذيًا" بتعليق المساعدات الخارجية لمدة تسعين يومًا لمراجعة مدى توافقها مع السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة. ورغم أن وزير الخارجية الأمريكي استثنى إسرائيل ومصر من هذا التعليق، إلا أنه أبقى الأردن ضمن القائمة، مما اعتبره البعض ابتزازًا للأردن ومحاولة لتقديم رشوة "مسمومة" لمصر، بهدف تمرير مشاريع تخدم أجندة إسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين وأمن واستقرار المنطقة.
قبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض، توقعنا أنه سيكون أكثر "حزمًا" في وقف إطلاق النار في غزة، وأكثر "سخاءً" في تقديم التنازلات لإسرائيل، لكننا لم نتوقع أن يتصرف بهذه السرعة وبهذه الطريقة الفجة. لقد بدأ ولايته الأولى بـ "منح" إسرائيل القدس عاصمة "أبدية وموحدة" ونقل السفارة الأمريكية إليها.
إن حديث ترامب ومطالبه بتهجير سكان غزة إلى الأردن ومصر، يكشف عن طبيعة "الصفقة" التي يخطط لها لحل الصراع في الشرق الأوسط. صفقة قد تحمل عنوان "صفقة القرن 2″، ستكون أكثر سخاءً مع المتطرفين اليهود والصهاينة، وأكثر انتهاكًا للحقوق الفلسطينية والمصالح العربية. صفقة تتبنى العناصر الأساسية لنظرية "حسم الصراع" التي بدأتها الصهيونية الدينية.
يمكن للمراقب أن يستنتج من مكالمة ترامب مع الملك الأردني، وما قد يحدث مع الرئيس المصري السيسي، أن إدارته لن تسعى جاهدة لتسهيل إغاثة غزة وإيواء مشرديها وإعادة بناء ما دمرته الحرب الإسرائيلية. بل على العكس، من المرجح أن تستخدم هذه العناوين الثلاثة (إغاثة، إيواء، إعمار) كسلاح في وجه الفلسطينيين والأردنيين والمصريين.
لقد مهدت هذه الإدارة، في أسبوعها الأول، لمزيد من التحولات المقلقة والخطيرة في السياسة الأمريكية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ رفعت المستوطنين من قوائم العقوبات الأمريكية، وسمحت بشحن القنابل الثقيلة إلى إسرائيل بعد أن جمدت إدارة بايدن توريدها، واستثنت إسرائيل من قرار تعليق المساعدات الخارجية. كل ذلك في غضون أقل من ستة أيام عمل.
المواجهة ممكنة
هذا لا يعني الاستسلام لإرادة واشنطن. الفلسطينيون أثبتوا صمودهم وثباتهم على أرضهم، ودفعوا أثمانًا باهظة. لقد أدركوا أن النكبة الحقيقية ليست في فقدان الأرض، بل في تهجير سكانها.
لقد تعلموا الدرس جيدًا، ولن ينسوا دروس النكبة والنكسة. فصائل المقاومة الفلسطينية أعلنت رفضها القاطع لمشاريع التطهير والتهجير، ويقف خلفها الإجماع الوطني الفلسطيني.
ليس أمام الأردن ومصر خيار سوى مقاومة هذا المشروع، ليس فقط تضامنًا مع الشعب الفلسطيني وحقه في أرضه، بل أيضًا دفاعًا عن أمنهما واستقرارهما. بالنسبة لمصر، فإن الانصياع لإملاءات واشنطن سيقوض مصداقية النظام ويضعف الدعم الشعبي، ويضر بالسيادة الوطنية والدور التاريخي.
أما في الأردن، فالتهديد يتجاوز الأمن والاستقرار، ليطال الهوية والكيان. إذا كان التهجير تهديدًا لأمن مصر واستقرارها، فهو في الحالة الأردنية تهديد وجودي للدولة والهوية. سيؤدي ذلك إلى تحويل الصراع من كونه فلسطينيًا إسرائيليًا واضح المعالم، إلى صراع داخلي معقد في الأردن.
يخشى الأردنيون والفلسطينيون من أن يكون مخطط تهجير سكان غزة "بروفة" لما يمكن أن يحدث في الضفة الغربية في المستقبل القريب، خاصة مع قرار حكومة نتنياهو نقل الحرب من غزة إلى الضفة الغربية، وتحويل جنين ومخيمها إلى "غزة مصغرة".
لهذه الأسباب، لا مجال للفشل في معركة إسقاط مشروع التهجير، مهما كان مصدره، حتى لو كان الرئيس الأمريكي هو من يقف في صفوف المدافعين عنه. ذلك ليس خيارًا على الإطلاق، وهناك أوراق قوة يجب استخدامها:
- تعزيز الجبهة الداخلية.
- الانفتاح على كافة الفصائل الفلسطينية.
- تحريك موقف عربي فاعل لمواجهة المخطط، دفاعًا عن الأردن ومصر.
- توسيع التحرك السياسي والدبلوماسي أوروبيًا وعالميًا لعزل الموقف الأمريكي.
لقد غضب البعض عندما قلنا إن واشنطن لن تتردد في تفضيل إسرائيل على حلفائها العرب، إذا وجدت نفسها عاجزة عن التوفيق بين مصالحهم المتعارضة. قلنا إنها ستدعم إسرائيل حتى في مواجهة حلفائها العرب، وستنظر إلى أي ضرر يلحق بهم كأعراض جانبية. حدث ذلك مع الأردن زمن صفقة القرن الأولى، وقد يتكرر مع الأردن ومصر زمن "صفقة القرن الثانية".
لقد ذهب العرب إلى السلام مع إسرائيل على أمل تحقيق الأمن والاستقرار، لكن الدول الأكثر نشاطًا على دروب السلام هي الأكثر عرضة للتهديد من إسرائيل وواشنطن. ظن البعض أن المعاهدات ستجلب راحة البال، لكن اليمين المتطرف يهدد بأكل الأخضر واليابس. فهل نتعظ، ونعود لحكمة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك: المتغطي بأمريكا عريان.